Ben Azzouz
 
 
اللهم صل على سيدنا محمد الخاتم لما سبق ناصر الحق بالحق والهادي إلى صراطك المستقيم وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم
ΨΘΗΪΙ  ΓΞΘΡ ΥΟνήί
[ربنا]   [ديننا]   [نبينا]   [الإمام مالك بن أنس]   [التصوف]   [الطريقة العزوزية]   [أبرياء من الشعوذة]

  [مع مذاهب الإخوة]   [ندائنا لأهل الكتاب]   [لفتة إلى الساسة]    [الرد على الخراشي]
  [الرد على فيصل من تونس ] [تعليق محمد الكامل بن عزوز ]

الفصل الاول

 

الفصل الاول : الاصــل الكريــم

ميــلاده :

كانت الأمة الإسلامية تحتفل بالذكرى الثمانين من مولد الرسول الأعظم (ص) ، في السابع عشر من شهر ربيع الأول ، وكانت تسير في بيت الرسالة موجة كريمة من السرور والإبتهاج ، ترتقب مجدا يهبط عليها فيزيدها رفعة وشموخاً .

في تلك الليلة ، وفي ذلك الجو الميمون ولد الإمام الصادق شعلة نور بازغة سخت بها إرادة السماء لتضيء لأهل الأرض ، وتنير سبلها إلى الخير والسلام .

 

أبــواه :

ولد من أبوين كريمين عظيمين مباركين هما :

1 - الإمام محمد بن علي بن الحسين بن علي ؛ الباقر  ، الذي انحدر من سلالة علي أباً وأماً ، حيث كان حفيد الحسين بن علي ، وكانت أمه حفيدة الحسن  . وهكذا بُني أول بيت فاطمي أصيل ، فكان أشم وأروع قمة إنسانية ارتفعت على بيت الرسالة .

2 - فاطمة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر ، التي كانت هي الأخرى أول نقيبة من سلالة أبي بكر أماَ وأباَ . وجدها محمد بن أبي بكر كان له سابقة الجهاد بين يدي الإمام أمير المؤمنين  ، وكان ربيباَ له حيث تزوج الإمام بعد موت أبي بكر زوجته أسماء بنت عميس ، فربى ولدها محمد في حجره ، وغذاه من علومه ، حتى أصبح فدائياَ مخلصاً للإسلام ، وولاه مصراً فقتل فيها بأمر من معاوية .

وهكذا يأتي الإمام عصارة جهاد مقدس ، من أب وأم منحدرين من سلالة مباركة .

 

نشأتــه :

لقد كانت ولادته في عصر جده الإمام زين العابدين الذي ملأ الآفاق فضله ومجده ، ولم يزل في كنفه الوديع الذي كان يوحي إليه كل معاني السمو والعظمة ، ويغذيه بكل معاني الفضل والكمال ، ولم يزل يرى من جده العبادة والزهادة والرفادة والإجتهاد في طاعة اللـه فتنطبع في نفسه آثارها ، حتى بلغ سن الثانية عشر .

وعندما انتقلت إلى أبيه مقاليد الإمامة العامة ، وقام  بأداء واجباتها ومسؤولياتها خير قيام ، كان الإمام الصادق  يترعرع ليصبح فتاً نموذجيا يرمق إليه الشيعة بأبصارهم ويرون فيه القدوة السادسة لهم .

 

سفرته إلى الشام :

لقد كان الأمويون في الفترة الأخيرة من تسلطهم - حيث اختلفت على الامة الإسلامية التيارات الفكرية المتناقضة - يمارسون آخر محاولاتهم لتمويه الحقائق وإثبات المتناقضات ، ويعالجون الأحداث السياسية على ضوء سياسة أسلافهم المنحرفين ، والعجيب من أمرهم أنَّهم في تلك الحقبة كانوا يبدِّلون أزياء الخلافة كما تتبدل السنين ، فلا تكاد تقبل سنة جديدة على الناس إلاَّ بخليفة جديد ، لأن الأمة تلفظهم وتأبى الخضوع لسيادتهم الباطلة .

في هذا العصر - بالذّات - قاسى الإمام الباقر  من ظلم الأمويين الشيء الكثير ، لأنه كان مأوى الحق وأهله ومركز المضطهدين ، الذين عارضوا سياسة الأمويين كما يتبين ذلك من سيرته المقدسة .

أما الشيعة فقد إبتلوا بلاءً عظيماً من جراء الظلم الأموي ، كما بين الإمام الباقر حين قال : “ ثم جاء الحجاج فقتلهم - يعني الشيعة - شر قتله وأخذهم بكل ظنة وتهمة “ .

حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال له شيعي ينتمي لعلي  .

ولأن الخليفة الأموي أراد إثبات سلطته على الإمام الباقر  واستعراض قوته أمامه - مثلما يصنعه الحاكم السياسي الظالم اليوم بمن يعارضه في الأمر - قام باستدعائه إلى الشام ، فسافر الإمام  إليها مصطحباً ولده العزيز .

 

 

(1) يقــول بعض المحققين أن أقرب الروايات إلى الحقيقة في تاريخ ميلاد الصادق  هي التي تحدده بسنة (80) هجرية وهناك روايتان أخريتان 83 و 77 غير معتمد عليهما.

 

الفصل الثاني : عهــد امامتــه

في سنة (117 هـ ) - حيث انتقل الإمام الباقر  إلى جوار ربه ضحية غالية لسياسة بني أمية الجائرة - أوصى إلى ولده الصادق  وهو في سن الرابعة والثلاثين بمدرسته التي اجتمعت عليها المئات من ذوي الفكر والبصيرة ، حتى كانت نواة المدرسة الكبرى التي أسسها الإمام الصادق  من بعد أبيه ، كما أوصى له بالإمامة . وبهذا انتقلت إلى الإمام الصادق  قيادة الأمة الدينية ومسؤولياتها السياسية الكبيرة .

 

المدرسة الكبرى :

لعلنا لن نجد في التاريخ الإنساني مدرسة فكرية استطاعت أن توجه الأجيال المتطاولة ، وتفرض عليها مبادئها وأفكارها ، ثم تبني أمة حضارية متوحدة لها كيانها وذاتيتها ، مثلما صنعته مدرسة الإمام الصادق  .

إن من الخطأ أن نحدد إنجازات هذه المدرسة في من درس فيها وأخذ منها من معاصريها وإن كانوا كثيرين جدا ، وإنما بما خلّفته من أفكار ، وبما صنعته من رجال غيرّوا وجه التاريخ ووجهوا أمته ، بل وكوَّنوا حضارته التي ظلت قروناً مستطيلة .

لقد أثبت التاريخ أن الذين استقوا من أفكار هذه المدرسة مباشرة كانوا أربعة آلاف طالب . ولكن ذلك لا يهمنا بمقدار ما يهمنا معرفة ما كان لهذه المدرسة من تأثير في تثقيف الأمة الإسلامية التي عاصرتها والتي تلتها إلى اليوم ، وإن الثقافة الإسلامية الأصيلة كانت جارية عنها فقط ، حيث أثبتت البحوث أن غيرها من الثقافات المنتشرة بين المسلمين إنما انحدرت عن الأفكار المسيحية واليهودية بسبب الدَّاخلين منهم ، أو ملونة بصبغة الفلاسفة اليونان والهنود الذين ترجمت كتبهم إلى العربية ، فبنى المسلمون عليها أفكارهم وكوَّنوا بها مبادئهم .

ولم تبق مدرسة فكرية إسلامية حافظت على ذاتيتها ووحدتها وأصالتها في جميع شؤون الحياة كما بقيت مدرسة الإمام الصادق  ، ذلك لثقة التابعين بها وبأفكارها ، مما دفعهم إلى التحفظ بها وبملامحها الخاصـــة عبر قرون طويلة ، حتى أنهم كانوا ينقلون عنها الروايات فماً بفم ، وإذا كتبوا شيئا لا ينشروه إلاّ بعد الإجازة الخاصة ممن رووا الأفكار عنه .

وإذا عرفنا بأن الثقافة الإسلامية - الشيعية منها أو السنّية - كانت ولا زالت تعتمد على الأئمة من معاصري الإمام الصادق  كالأئمة الأربعة ممن توقف المسلمون على مذاهبهم فقط ، وبالتالي عرفنا بان معظم هؤلاء الأئمة أخذوا من هذه المدرسة أفكارهم الدينية ، حتى أن ابن أبي الحديد أثبت أن علم المذاهب الأربعة راجع إلى الإمام الصادق في الفقه . وقد قال المؤرخ الشهير أبو نعيم الأصفهاني : ( روى عن جعفر عدة من التابعين منهم : يحيى بن سعيد الأنصاري ، وأيوب السختياني ، وأبان بن تغلب ، وأبو عمـرو بن العلاء ، ويزيد بن عبد اللـه بن هاد ، وحدث عنه الأئمة الأعلام : مالك بن أنس ، وشعبة الحجـــــاج ، وسفيان الثوري ، وابن جريح ، وعبد اللـه بن عمر ، وروح بن القاسم ، وسفيان بن عيينه ، وسليمان بن بلال ، وإسماعيل بن جعفر ، وحاتم بن إسماعيل ، وعبد العزيز بن المختار ، ووهب بن خالد ، وإبراهيم بن طهمان ، في آخرين ، وأخرج عنه مسلم بن الحجاج في صحيحه محتجاً بحديثه

إذا عرفنا ذلك صح لنا القول بأن الثقافة الإسلامية الأصيلة ترجع إلى الإمام الصادق  وإلى مدرسته فقط .

ومن جانب آخر إذا عرفنا بأن تلميذاً واحداً من الملتحقين بهذه المدرسة ألّف زهاء خمسمائة رسالة في الرياضيات كلها من إملاء الإمام الصادق  ، وهو جابر بن حيان المعلم الرياضي الشهير الذي لا يزال العالم يعرف له فضلاً كبيراً على هذه العلوم وأيادي طويلة على أهلها .

وروى عنه محمد بن مسلم ستة عشر ألف حديث في مختلف العلوم ، وآخرون من هؤلاء الأفذاذ ، حتى قال قائلهم رأيت في هذا المسجد - أي مسجد الكوفة - تسعمائة شيخ كل يقول : ( قال : جعفر بن محمد ) . حتى أن أبا حنيفة كان يقول :

( لولا السَّنتان لهلك النُّعمان ) .

وأخيراً عرفنا بانه لم يرو عن أحد من الأئمة الإثني عشر - بل عن المعصومين الأربعة عشر وفيهم رسول اللـه (ص) - بقدر ما روي عن الإمام الصادق . ولقد جمع المتأخرون من الشيعة ما روي عنهم في مجلدات ضخمة : فكان البحار للمجلسي يحوي مائة وعشرة مجلدات ، وكان جامع الأخبار للنراقي مثيلاً له ، وكان مستدرك البحار نظيراً له ، وقد احتوت غالبية هذه الكتب ونظائرها على أحاديث الإمام الصادق وأكثرها في الفقه والحكمة والتفسير وما إلى ذلك .

أما في سائر العلوم فلم يصل إلى أيدينا إلاّ الشيء القليل ، حيث ذهب معظمها ضحية الخلاف السياسي الذي أعقب عصر الإمام ، فكم من كتب مخطوطة للشيعة أحرقتها نيران المنحرفين ، وكان نصيب مكاتب الفاطميين بمصر أكثر من ثلاثة ملايين كتاباً مخطوطا ، وكم من كتب لفتها أمواج دجلة والفرات وأحرقتها مطامع العباسيين ببغداد والكوفة ، وكم من محدّث واسع المعرفة جمّ الثقافة ظلت العلوم هائجة في فؤاده لا يستطيع لها نشراً خوفاً من إرهاب العباسيين وإجرامهم ، فهذا ابن أبي عمير ظلَّ في سجون بني العباس مدة طويلة - ومن المؤسف - أن ما كتبها هجرت في هذه المدة حتى عفنت واكلها التراب ، وراحت أحاديث كثيرة منها صحيحة الأعمال . وهذا محمد بن مسلم حفظ ثلاثين ألف حديثاً عن الإمام الصادق ولم يرو منها شيئاً .

إذا عرفنا كل ذلك أمكننا معرفة مدى شمول ثقافة هذه المدرسة العالم الإسلامي ومدى سعة أفقها الرحيب .

والمشهور أن منهاج الإمام الصادق كان يوافق أحدث مناهج التربية والتعليم في العالم ، حيث ضمت حوزته اختصاصيين كهشام بن الحكم الذي تخصص في المباحث النظرية ، وتخصص زرارة ومحمد بن مسلم وأشباههم في المسائل الدينية ، كما تخصص جابر بن حيان في الرياضيات ، وعلى هذا الترتيب .

حتى أنه كان يأتيه الرجل فيسأله عما يريد من نوع الثقافة ، فيقول الفقه فيدله على إخصائيه ، أو التفسير فيومىء إلى صاحبه ، أو الحديث والسيرة ، أو الرياضيات ، أو الطب ، أو الكيمياء ، فيشير إلى تلامذته الاخصائيين ، فيذهب الرجل بملازمة من أراد حتى يخرج رجلاً قديراً بارعاً في ذلك الفن .

ولم يكن الوافدون إليه من أهل قطر خاص ، فلقد كانت طبيعة العالم الإسلامي في عصره تقضي على الأمة بتوسيع الثقافة والعلم والمعرفة في كل بيت .. حيث أن الفتوحات المتلاحقة التي فتحت على المسلمين أبواباً جديدة من طرق العيش وعادات الخلق ، وأفكار الأمم ، كانت تسبب احتكاكاً جديداً للأفكار الإسلامية بالنظريات الأخرى ، ولسبيل الحياة عند المسلمين بعادات الفرس والروم وغيرهما من جارات الدولة الإسلامية ، كما خلقت مجتمعاً حديثاً امتزج فيه المتأثر العميق بالوضع ، والمنحرف الكامل عن الإسلام ، مما سبب حدوث تناقضات في الحياة ، قد ترديه وتحدث لديه انعكاسات سيئة جداً لذلك الامتزاج الطبيعي المفاجىء .

لذلك هرعت الأمـــة يومئذ إلى العلم والثقافة والتصقت بأبي عبد اللـه الصادق مؤملة الخضب الموفـور ، ووفدت عليه من أطراف العالم الإسلامي طوائف مختلفة ، وساعدهم على المثول عنده مركزه الحساس ، حيث اختار - في الأعم الأغلب - مدينة الرسول (ص) التي كانت تمثل العصب الحساس في العالم الإسلامي ، ففي كل سنة كانت وفود المسلمين تتقاطر على الحرمين لتأدية مناسك الحج المفــروضـــة ولحـــل مسائلهم الفقهية والفكريـــة . فيلتقون بصادق أهـــل البيت  وبمدرستـــه الكبـرى حيث يجدون عنده كل ما يريدون .

ويجدر بنا المقام هنا أن نشير إجمالا إلى موجة الإلحاد التي زحفت على العالم الإسلامي في عهد الإمام الصادق ، وقد اصطدمت بمدرسته ، فإذا بها الصَّد المتين ، والسَّد الرصين ، الذي حطم قواها وجعلها رذاذاً ، وباعتبار أننا نحاول أن نلخّص حياة إمامنا العظيم ونحدد ملامح مدرسته الكبرى ، يلـــزم أن نلم موجزاً بهذه الموجة الشاملة .

لقد أشرنا قريباً إلى أن الفتوحات الإسلامية سببت احتكاكاً عنيفاً بين المسلمين وبين الداخلين ، ولأن أغلب المسلمين لم يكونوا قد تفهموا الإسلام تفهماً قويماً ، ولا وعوه وعياً مستوعباً ، فإن نتيجة هذا الاصطدام كانت سيئة ، إذ أدّى إلى تشعب المسلمين إلى فرقتين :

الأولى : المحافظون المتزمتون الذين اتخذوا ظاهر الديـن ولم يتفهموا جوهره وحقيقته ، فإذا بهم يفقدون عقولهم ويفقدون معها مقاييس الأشياء ، وكانت الخوارج من فرسان هذا الإتجاه ، كما كانت الأشاعرة مع ملاحظة ما بين طوائفهم من اختلاف في الكمية والكيفية .

والثانية : المتطورون المفرّطون الذين بالغوا في التأثر بالوضع وألغوا المقاييس ، واكتفوا بما أوحت إليهم عقولهم الناقصة ، حسب اختلاف النزعات وتطور الظروف ، وكان في مقدمتهـم الملحدون ثم - مع اختلاف كثير - كانت المعتزلة ومن إليهم من الفرق الأخرى .

وبطبيعة الحال كان الملحدون متسترين بسبب الوضع الاجتماعي القاسي الذي يعتبر فيه المرتد أسوأ حالاً من الكافر الأصيل ، وكانوا أقلاء في نفس الوقت ، بيد أنهم كانوا يستقون أفكارهم من فلسفة اليونان التي كان العرب لا يعرفها حتى ذلك اليوم ، وحيث تمت صلتهم بها عن طريق حركة الترجمة المنتشرة من عهد الإمام فصاعداً .

ولذلك كان القليل من المسلمين الذين تفهموا فلسفة الإسلام النظرية من جميع أبعادها ، وعرفوا الاختلاف بينها وبين سائر النظريات ، واستطاعوا أن يقيموا الحجة البالغة على صحة مبادئ الإسلام الفكرية ودحض ما سواها .

وقد اصطدم هؤلاء بمن اقتصرت معلوماتهم على مجموعة من الأحاديث التي يروونها عن أبي هريـرة أو غيره ، غير مبالين بما فيها من تناقضات جمة ، وكانوا يحسبون أنهم على حق ، وأن لهم مقدرة كافية لإثبات مزاعمهم الباطلة ، فترى أحدهم يشكل حزباً ويدعو إليه الناس سراً .

لذلك تحتم على الإمام الوقوف في وجههم وتبديد مزاعمهم . فرسم ثلاثة خطط حكيمة لذلك :

الأولى : لقد خصّ فرعاً من مدرسته بالذين يعرفون فلسفة اليونان بصورة خاصة وغيرها بصورة عامة ، ويعرفون وجهة نظر الإسلام إليها والحجج التي تنقضها ، وكان من هؤلاء هشـام بن الحكـم المفّوه الشهـير ، وعمران بن أعين ، ومحمد بن النعمان الأحول ، وهشام بن سالم ، وغيرهم من مشاهير علم الحكمة والكلام ، العارفين بمقاييس الإسلام النظرية أيضا .

الثانية : وكتب رسائل في ذلك ، مثل رسالته المدعاة بـ ( توحيد المفضل ) ، ورسالته المسمـــاة بـ (الإهليلجة) وما إليها .

الثالثة : المواجهة الشخصية لزعماء فكرة الإلحاد . وباعتبار أن هذه العملية الأخيرة كانت أبلغ في مقابلة الموجة من اللتين سبقتا ، لذلك يجدر بنا الوقوف عندها قليلاً لقراءة بعض القصص والأحداث المهمة :

1 - كان ابن أبي العوجاء وابن طالوت وابن الأعمى وابن المقفع مجتمعين بنفر من الزنادقة في الموسم بالمسجد الحرام ، وكان الإمام الصادق متواجداً آنذاك يفتي الناس ويفسر لهم القرآن ويجيب عن المسائل بالحجج والبينات . فطلب القوم من ابن أبي العوجاء تغليظ الإمام وسؤاله عما يفضحه بين المحيطين به .

فأجابهم بالإيجاب واتجه - بعد ان فرَّق الناس - صوب الإمام ، وقال : يا أبا عبد اللـه إن المجالس أمانــــات ولا بدّ لكل من به سؤال أن يسأل ، أفتأذن لي في السؤال ؟ فقال له أبو عبد اللـه : سل إن شئت .

فقال ابن أبي العوجاء : إلى كم تدوسون هذا البيدر ، وتلوذون بهذا الحجر ، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر ، وتهرولون حوله هرولة البعير ، فهناك من فكّر في هذا وقدّر بأنه فعل غير حكيم ولا ذي نظر . فقل فإنك رأس هذا الأمر وسنامه ؟

فقال الصادق :

“ إن من أضله اللـه وأعمى قلبه استوهم الحق فلم يستحث به ، وصار الشيطان وليّه وربّه يورده مناهل الهلكة ولا يصدره ، وهذا بيت استعبــــد اللـه به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه ، فحثهم على تعظيمه وزيارته ، وجعله قبلة للمصلين له ، فهو شعبة لرضوانه ، وطريق يؤدي إلى غفرانه ، منصوب على استواء الكمال ومجمع العظمة والجلال ، خلقه اللـه قبل دحو الأرض بألفي عام ، فأحق من أطيع فيما أمر وانتهى عما زجر ، هو اللـه المنشئ للأرواح والصور “ .

فقال له ابن أبي العوجاء : فأحلت على غائب .

فقال الصادق : “ كيف يكون يا ويلك غائباً من هو مع خلقه شاهد ، وإليهم أقرب من حبل الوريد ، يسمع كلامهم ويعلم أسرارهم ، لا يخلو منه مكان ، ولا يشغل به مكان ، ولا يكون إلى مكان أقرب من مكان ، تشهد له بذلك آثاره ، وتدل عليه أفعاله ، والذي بعثه بالآيات المحكمة والبراهين الواضحة محمد رسول اللـه (ص) الذي جاءنا بهذه العبادة ، فإن شككت في شيء في أمره فاسأل عنه “ .

فأبلس ابن أبي العوجاء ولم يدر ما يقول ثم انصرف من بين يديه ، وقال لأصحابه : سألتكم أن تلتمسوا لي خمرة فألقيتموني على جمرة .

فقالوا له : أسكت فو اللـه لقد فضحتنا بحيرتك وانقطاعك وما رأينا أحقر منك اليوم في مجلسه . فقال : إليّ تقولون هذا ، إنه ابن من حلق رؤوس من ترون - وأومأ بيده إلى أهل الموسم - .

ومرة أخرى جاء إليه يسأله عن حدوث العالم ؟

فقال: “ ما وجدت صغيراً ولا كبيراً إلاّ إذا ضم إليه صار أكبر ، وفي ذلك انتقال عن الحالة الأولـــى ،

ولو كان قديماً ما زال ولا حال ، لأن الذي يزول ويحول يجوز أن يوجد ويبطل ، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث ، وفي كونــه في الأزل دخول في القدم ، ولن يجتمع صفة الحدوث والقدم في شيء واحد “ .

فقال ابن أبي العوجاء : هب علمك في جري الحالتين والزمانين على ما ذكرت استدللت على حدوثها ، فلو بقيت الأشياء على صغرها من أين كان لك أن تستدل على حدوثها ؟

فقال : “ إنا نتكلم عن هذا العالم الموضوع ، فلو رفعناه ووضعنا عالماً آخر كان لا شيء أدلّ على الحدث من رفعنا إياه ووضعنا غيره ، ولكن أجيبك من حيث قدرت أن تلزمنا فتقول : إن الأشياء لو دامت على صغرها لكان في الوهم أنه متى ضم شيء منه شيء إلى منه كان أكبر ، وفي جواز التغّير عليه خروجه من القدم ، إن في تغّيره دخوله في الحدث ، وليس لك وراءه بشيء يا عبد الكريم “

ومرة جاء وقد جمع كيده وحشد أدلته وحدّ اظفاره ، فما أن تباحث مع الإمام حتى أفحم إفحاما ، فقام ولم يرجع حتى هلك  وطوي بموته على هذه الشاكلة صفحة إلحاد كان لها أنصار وأعوان ، ومضى زعيم إلحاد كان له صولة وجولة وحزب كبير .

2 - يروى عن هشام بن الحكم أنه قال : كان زنديق بمصر يبلغه عن أبي عبد اللـه علم ، فخرج إلى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها ، وقيل هو بمكة فخرج إلى مكة - ونحن مع أبي عبد اللـه  آنذاك - فانتهى إليه وهو في الطواف ، فدنا منه وسلم .

فقال له أبو عبد اللـه  : ما اسمك ؟

قال : عبد الملك .

قال : فما كنيتك ؟

قال : أبو عبد اللـه .

قال : فمن ذا الملك الذي أنت عبده ، أمن ملوك الأرض أم من ملوك السماء . وأخبرني عن ابنك أعبد إله السماء أم عبد إله الأرض ؟ فسكت . فقال : ابو عبد اللـه قل . فسكت .

فقال له  : إذا فرغت من الطواف فأتنا . فلما فرغ ابو عبد اللـه من الطواف أتاه الزنديق ، فقعد بين يديــــه - ونحن مجتمعون عنده - فقال أبو عبد اللـه  : أتعلم أن للأرض تحتاً وفوقــــاً ؟

فقال : نعم .

قال : دخلت تحتها ؟

فقال : لا .

قال : فهل تدري ما تحتها ؟

قال : لا أدري إلاّ أني أظن أن ليس تحتها شيء .

فقال : فالظن عجز ما لم تستيقن .

ثم قال له : صعدت إلى السماء ؟

قال : لا .

قال : أفتدري ما فيها ؟

قال : لا .

قال : فأتيت المشرق والمغرب فنظرت ما خلفهما ؟

قال : لا .

قال : فالعجب لك لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب ولم تنزل تحت الأرض ولم تصعد إلى السماء ولم تجد ما هناك فتعرف ما خلفن وأنت جاحد ما فيهن ، وهل يجحد العاقل مالا يعرف .

فقال الزنديق : ما كلمني بهذا غيرك .

فقال أبو عبد اللـه  : فأنت من ذلك في شك ، فلعل هو ولعل ليس هو .

قال : ولعل ذلك .

فقال ابو عبد اللـه  : “ أيها الرجل ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم ، ولا حجة للجاهل على العالم ، يا أخا أهل مصر تفهم عني ، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان ولا يستبقان يذهبان ويرجعان ، - قد اضطرّا ، ليس لهما مكان إلاّ مكانهما ، فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلم يرجعان ، وإن كانا غير مضطرين فلم لا يصير الليل نهاراً والنهار ليلاً . واللـه يا أخا أهل مصر ان الذي تذهبون إليه وتظنون من الدهر ، فإن كان هو يذهبهم فلم يردهم ، وإن كان يردهم فلم يذهب بهم ، أما ترى السماء مرفوعة والأرض موضوعة لا تسقطهـا على الأرض ولا تنحـدر الأرض فـوق ما تحتـها ، أمسكها واللـه خالقها ومديرها “ .

قال : فآمن الزنديق على يدي أبي عبد اللـه  ، فقال لهشام : خذه الليلة وعلمه .

3 - وجاء إليه زنديق آخر وسأله عن أمور نظرية ، فكان بينهما الحوار التالي :

قال كيف يعبد اللـه الخلق ولم يروه ؟

قال ابو عبد اللـه  : “ رأته القلوب بنور الإيمان ، وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان ، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف ، ثم الرسل وآياتها والكتب ومحكماتها ، واقتصرت العلماء على اماراته من عظمته دون رؤيته “.

قال : أليس هو قادر على أن يظهر لهم حتى يروه فيعرفونه فيعبد على يقين ؟

قال : “ ليس لمحال جواب “

قال : فمن أين أثبت أنبياءً ورسلاً ؟

قال  : “ إنما لما أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيماً لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا أن يلامسوه ، ولا أن يباشرهم ويباشروه ، ويحتاجهم ويحتاجوه ، ثبت أن له سفراء عباداً يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم ، وما به بقاؤهم ، وفي تركه فنائهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، وثبت عند ذلك أن لهم معبّرين - هم الأنبياء وصفوته من خلقه - حكماء مؤدبين بالحكمة ، مبعوثين عنه ، مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم له في الخلق والتدبير ، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص “ .

قال : من أي شيء خلق الأشياء ؟

قال : من لا شيء !

فقال : كيف يجيء بشيء من لا شيء ؟

قال : “ إن الأشياء لا تخلو ، إما أن تكون خلقت من شيء أو من غير شيء ، فإن كانت خلقت من شيء فإنَّ ذلك الشيء قديم ، والقديم لا يكون حديثا ولا يتغير ، ولا يخلو ذلك الشيء جوهراً واحداً ولوناً واحداً ، فمن أين جاءت هذه الألوان المختلفة والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتى ، ومن أين جاء الموت إن كان الشيء الذي أنشئت منه الأشياء حيّاً ، أو من أين جاءت الحياة إن كان ذلك الشيء ميتاً ، ولا يجوز أن يكون من حي وميت ، لأن الحي لا يجيء منه ميت وهو لم يزل حيّاً ، ولا يجوز أيضاً ان يكون الميت قديماً ، لم يزل لما هو به من الموت لأن الميت لا قدرة به ولا بقاء “ .

ثم قال : من أين قالوا أن الأشياء أزلية ؟

قال : “ هذه مقالة قوم جحدوا مدبر الأشياء ، فكذبوا الرسل ومقالتهم والأنبياء وما أنبأوا عنه ، وسموا كتبهم أساطير ووضعوا لأنفسهم ديناً بآرائهم ، وإن الأشياء تدل على حدوثها من دوران الفلك بما فيه .. إلى آخر حديثه الطويل “ .

وعندما ننهي الحديث عن هذه المحادثات الغزيرة بالنظريات الفلسفية من جانب ، والنظريات الدينية من جانب آخر ، ثم بالتوفيق بينهما ورد الأفكار الباطلة - عند ذلك - يجب أن نعرف أن الفلسفة الإسلامية لم تستطع أن تقوم لها قائمة إلاّ بعد قرن كامل من انقضاء مدرسة الإمام الصادق ، فهناك استطاع المسلمون أن ينشئوا مدرسة ذات أصالة وملامح خاصة من بين مدارس العالم الفلسفية ، ومع ذلك فإنا نرى أن هذه النظريات التي استفاضت بها أحاديث الإمام الصادق تتمتع بأصالة وذاتية كاملة ، في حين أن غيرها بدى مثل غثاء البحر الذي يجتمع إليه من كل جانب شيء دون أن يكون فيها أي تجاوب أو تناسب - هذا في صورتها - أما في واقعها فإنها فشلت في التوفيق بين المبادئ الدينية والدراسات الفلسفية فشلاً ذريعاً ، حتى التجأت إلى التأويل في النصـوص الإسلاميـة الصريحة ، أو الطرح لها رأساً ، لدرجة لم تعد هي فلسفة الإسلام أبداً .

بينما نرى نظريات الإمام الصادق  في دراساته لا زالت من صميم الفكرة الإسلامية وآيات الذكر وآثار النبي ، ومن قوانين الإسلام ونظمه حتى لكأنه جزء لا يتجزأ من كيان موحد أصيل ، في نفس الوقت الذي نرى توفيقه الشامل لفطرة الإنسان ووحي ضميره سواء في المعنى أو في الدليل .

 

الفصل الثالث: مواقــف مشرقــة

عـرض موجـز للأحــداث :

بنو أمية عشيرة تنتسب إلى قريش عن طريق أمية بن حرب ، وكانت تناوئ بني هاشم في الجاهلية ، حتى جاء الرسول محمد (ص) وجاءت معه الدعوة الإسلامية فعارضتها هذه العشيرة أشد معارضة حتى فشلت أمام قوتها واستسلمت إلى حين .

ومات النبي (ص) وجرت أحداث التاريخ هائجة طائشة ، ولم يكن عند بني أمية أمل العودة إلى المسرح السياسي حتى حلت الخلافة في بيت عثمان ، فوجدت بصيصاً من الأمل فراحت تتبعه .

وشاء القدر أن يقتل عثمان ، كما شاء التاريخ أن يقوم بنو عمه بطلب ثأره . من هنا بدأ تاريخ بني أمية ظاهراً في الحكومة الإسلامية .

حارب معاوية علياً  الخليفة الشرعي للأمة  ، فلما وجد أنصاراً كثيرين نصب نفسه على الناس ، ثم تطور وقال : إني وبنيِّ الملوك ، والناس عبيد صاغرون لنا .

وانحدرت سلسلة بني أمية تحكم الناس على أنها المالكة لأمرهم وهم المطيعون ، وإلاّ فالسيف وكل أنواع الفتك والتعذيب مآلهم .

وانفجرت من الناس ثورات تعارض الوضع بكل صراحة ومع أنها فشلت آخر الأمر ، لكنها أبقت ضمائرها لتحيا ذات مرة وتقود المسير .

وكانـت الثـورات قـد اتخـذت طابعـاً واحـداً - تقريباً - هو الأخذ بثأر الإمام الحسين ابن بنت رسول الأمة الذي جاهد الباطل للحق فقتل أفظع ما تكون قتلة في التاريخ .

أما بنو العباس فهي فرقة تنتمي إلى عم الرسول ، كانت لها سوابق لا بأس بها في تاريخ المعارضة السياسيـة لدولة بني أمية ، أكسبتها مزيداً من الكرامة والاعتبار بين الشعب الساخط على سياسة الأموييـن .

وجاءت سنة الثورة وأرسلت الثورات مبعوثها إلى خراسان - آخر نقطة تقريباً من البلاد الإسلامية - حيث يتواجد أنصار الدعوة ، لتعلن الثورة في الوقت المعلوم .

وكان أبو مسلم الخراساني فردا مؤمنا بضرورة قلب الأوضاع مهما يكن من أمر ، ولم يكن يؤمن بغير ذلك أبداً . وهذا الإيمان في الواقع أصمّه وأعماه ، وعدم إيمانه بغيرها هو الذي سبب نجاح بني العباس في ثورتهم دون غيرهم ممن خرجوا على الدولة ، حيث أن الثائرين على الأغلب كانوا يتورعون من ارتكاب المحرمات ولو ضمنت نجاحهم الدائم ، في نفس الوقت الذي لم يكن أنصار بني أمية محجمون عن أي عمل يدعم سلطانهم أو يفني عدوهم ، فإذا حاربهم من كان مثلهم في هذه التبعية تساوى احتمال نجاح الطرفين .

لم يكن أبو مسلم فريداً بين المنتمين إلى الدعوة العباسية الجديدة ، بل إن الأكثرية الغالبة من قادتها كانوا من هذا الطراز ، فلم يروا عائقا يمنعهم عن السيادة والاستئثار بالحكم إلاّ اعتبروا العمل لإزالته ، عملاً حسناً بأي صورة كانت .

لقد استلم أبو مسلم من مركز القيادة - الكوفة - واصدر أوامر كانت هذه بعض فقراتها:

“ إنك رجل منا - أهل البيت - إحفظ وصيتي ، أنظر هذا الحي من اليمن فالزمهم واسكن من أظهرهم ، واتّـهم ربيعة في أمرهم ، وأما مضر فإنهم العدو القريب الدار واقتل من شككت فيه ، وإن استطعت ألا تدع بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل ، وأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله ولا تخالف هذا الشيخ سليمان بن كيد ولا تعصه ، وإذا أشكل عليك الأمر فاكتف به مني والسلام “ .

وهو بالذات لا يحتاج إلى مثل هذه الأوامر لأنه - كما سبق - كان رجلاً سفاكاً إلى أبعد الحدود ، فكم غدر بالقادة المعارضين له بعدما استضافهم في بيته ، وكم أعطى الأمان لرجال صالحين ثم نكّل بهم وقتّلهم تقتيلاً ، وكم قتل الأبرياء بغير جريمة ، وكم هتك الحرمات بغير مبرر ، وكم وكم ..

أمــا القادة في الكوفة فلم يكونوا بأقل إجراماً منه ، فقد بايعوا رجلاً من بني هاشم هو محمد بن عبد اللــه وحينما وجدوا فرصة سرقوا الثورة واستأثروا بخيراتها وأنزلوا العذاب بمن ناصرهم في الأمس بل بالمؤسس للفكرة وبالذي بايعوه عن قريب فقد أخذوه وقتلوه غدراً .

وهذا أبو مسلم الذي كان المؤسس للدولة قد غدر به المنصور فقتله شر قتله ، وغدر بعيسى بن موسى وعزله عن ولاية العهد بعدما جعلها له إكراماً لما قدمه إليه من خدمات جليلة .

كمــا غـدر بنو العباس بكل مـن أبي سلمـة الخلال ، ويعقوب بن داود ، وفضل بن سهل ، وجعفر البرمكي ، ويحيى الحسني ، وغيرهم ... ممن أسدوا إليهم خدمات كانت جديرة بأن تشكر وتجزى خير جــزاء .

 

موقف الإمام :

يعتقد البعض أن عصر الإمام الصادق كان يمكن أن يكون من أنسب العصور وأخصبها لو كان الإمام يشتغل للثورة الحقة التي ترجع الخلافة إلى المؤهل لها من عند اللـه عزّ وجلّ ومن لدن رسوله (ص) ، لكونه عصر تطور - بالغ الخطورة - في التاريخ الإسلامي ، حيث أزاح الستار عما كان الزمن قد ستره من الحقائق الدينية ، ولكن الواقع ينبئ بغير هذا الزعم وهو أن الإمام الصادق لم يكن يستطيع النهوض بإظهار الدعوة على المسرح السياسي في يوم من الأيام ، فأما في عصر الأمويين فلما سبق من أنهم لم يكونوا يتورعون من أي جريمة يرتكبونها في سبيل إخماد ثورة ضدهم ، مع أن الإمام لم يلجأ إلى الباطل في طريق الحق ولم يستعن بالظلم لتطبيق العدل ، وأما بنو العباس فلم يكونوا بأحسن أعمالاً من إخوانهم بني أمية ولا بأورع عن الفتك والمكر في سبيل توطيد ملكهم ، ولذلك استطاعوا أن ينسفوا عرش بني أمية نسفا - وهكذا ضرب الباطل بالباطل وكان بينهما تبديلاً - .

كما استغل العباسيون كل نشاط لدعوة بني هاشم ، واستفادوا من الاستياء العام الذي صنعه الطالبيون - ولا زال الناس يلقون بآمالهم الكبيرة عليهم - لذلك لم يمكن النهوض بعبأ الثورة الشيعية لاسيما تلك التي يتورع فيها عن أي سفك للدماء البريئة وأي هتك للحرمات المقدسة .

ويدلنـــا على عدم وجود مؤهلات النهوض في عصر العباسيين أن طائفة من بني عمومـــــة الإمـــام ثـــاروا - سواء في عصر الإمام أو بعده - فلم يفلحوا وكان مصيرهم نفس المصير الذي لقيه أباؤهم في عصر الأمويين أبداً .

ومع ذلك كله فإن الإمام  كان يدعم أسس الثورة الفكرية الجامحة التي تؤدي إلى الثورة السياسية أيضاً ، وذلك بنشر الحقائق الدينية والتاريخية بصراحة وبدون غموض ، مما أدى إلى تهيئة جوّ صالح لغرس نواة الانقلاب الفكري السياسي ، حتى أنه قرر أن يكون الإمام موسى بن جعفر الكاظم - نجل الصادق - قائم آل محمد (ص) الذي كان تعبيراً عن رجوع الدولة المغتصبة والحق المضيع إليهم، حيث أن الشيعة لمسوا فيه رعايات واسعة لها تاثيرها في تحويل الوضع السياسي ، ولكن أتباع الدعوة الشيعية خانوها بإفشاء سر النهج والطريق المرسوم ، وكانت النتيجة أن ألقي القبض على الإمام الكاظم  وسجن سنوات طويلة وأنزل على الشيعة الويل والعذاب بشتى الصور .

ولكن روح الثورة التي خلقها الإمام الصادق ظلت متوثبة - حتى - بعد موت هارون الرشيد في زمان الإمام الرضا  حفيد الإمام ، وانتهت بإعـلان ولاية العهد الذي كان سبيلاً مباشراً لرجوع الخلافة إلى أبناء علي  ولكن شاء القدر باستشهاد الإمام الرضا قبل موت المأمون .

وعلى أي حال فإن الإمام الصادق خلق جوأً صالحاً للثورة في هذه السنوات التي تولى فيها إمامة المسلمين بعد أبيه .

ومن الطبيعي أن لا تتركه السلطات هادئاً يمشي في طريقه المرسوم وإن كان لا يعارضهم معارضة مباشرة ، لأن مقاطعته للعباسيين كانت لهم نذير سوء ، ومثيرة لسخطهم البالغ عليه وعنفهم الشديد له .

فقد دعاه المنصور ليسير في ركابه كما سار غيره من أئمة الجور . حيث أرسل إليه يقول : ألا تغشانا كما يغشانا الناس ؟

فإجابه الإمام  : “ ليس لنا ما نخافك من أجله ، ولا عندك ما نرجوك له ، ولا أنت في نعمة فنهنيك ولا نراك في نقمة فنعزيك بها . فما نصنع عندك “ ؟

فكتب إليه المنصور : تصحبنا لتنصحنا .

فأجابه  : “ من أراد الدنيا لا ينصحك ، ومن أراد الآخرة لا يصحبك “ .

فقال المنصور واللـه لقد ميز عندي منازل الناس من يريد الدنيا ممن يريد الآخرة .

والآن حيث انتهيت من وضع الخطوط العريضة لسياسة الإمام الصادق مع السلطات المعاصرة ينبغي لي أن أشير إلى بعض الأحداث التي جرت على الإمام  أو على بعض مواليه من المحن التي لاقوها من السلطة لا لشيء إلاّ لأنهم أرادوا الحق ودعوا إليه ، تاركاً البحث حولها إلى مجال آخر .

أشخص السفاح الإمام الصادق من المدينة إلى الحيرة ليفتك به ، ولكن كفاه اللـه من ذلك .

وجاء دور المنصور فتعاهد الإمام بالأذى اثنتي عشرة سنة ، وأشخصه سبع مرات في المدينة والربذة والكوفة وبغداد ، وفي كل مرة يستدعيه المنصور ، فإذا جاء إليه أنذر وأعذر وذهب بالذل ، ورجع الإمام بالخير والمعروف .

وإني إذ أنقل إليك أخي القارئ تفصيل هذا الاستحضار في أوائل خلافة المنصور وأواخرها ابتغاءً لبيان حدة الخلاف ونوعيته بين المنصور وبينه  .

1 - روى السيد ابن طاوس نقلاً عن الربيع حاجب المنصور أنه قال : لما حج المنصور - ربما يكون في سنة 140 أو 144 هجرية - وصار بالمدينة سهر ليلة فدعاني فقال : يا ربيع انطلق في وقتك هذا على أخفض جناح وألين مسير ، وإن استطعت أن تكون وحدك فافعل حتى تاتي أبا عبد اللـه جعفر بن محمد  فقل له هذا ابن عمك يقرأ عليك السلام ويقول لك :

“ إن الدار وإن نأت ، والحال وإن اختلفت ، فإنا نرجع إلى رحم أمس من يمين بشمال ونعل بقبال ، وهـو يسألك المصير إليه في وقتك هذا ، فإن سمح بالمصير معك فأوطئه خدّك ، وإن امتنع بعذر أو غيره فأردد الأمر إليه في ذلك ، وإن أمرك بالمصير إليه في تأن فيسر ولا تعسر ، واقبل العفو ولا تعنف في قول ولا فعل “ .

قال الربيع : فصرت إلى بابه فوجدته في دار خلوته ، فدخلت عليه من غير استئذان فوجدته معفراً خديه مبتهلاً بظهر كفيه قد أثر التراب في وجهه وخديه .

فأكبرت أن أقول شيئا حتى فرغ من صلاته ودعائه ثم انصرف بوجهه . فقلت : السلام عليك يا أبا عبد اللـه .

فقال : وعليك السلام يا أخي ، ما جاء بك ؟

فقلت : ابن عمك يقرأ عليك السلام .. حتى بلغت آخر الكلام .

فقال : ويحك يا ربيع ! { أَلَــمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللـه وَمَـــا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُـــــوا كَالَّذِينَ اُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الاَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } (الحديد/16 )

{ أَفَاَمِنَ أَهْلُ الْقُـرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَاَمِنُوا مَكْرَ اللـه فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللـه إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } (الاعراف/97-99)

قرأت على أمير المؤمنين السلام ورحمة اللـه وبركاته .

ثـم أقبـل على الصلاة وانصرف إلى توجهه ، فقلت هل بعد السلام من مستعتب أو إجابة ؟

فقال : نعم قل له :

{ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيــــمَ الَّذِي وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُـرَى } (النجم/33-40)

وإنا واللـه يا أمير المؤمنين قد خفناك وخافت بخوفنا النسوة اللاّتي أنت أعلم بهن ، لابدّ لنا من الايضاح به ، فإن كففت وإلاّ أجرينا اسمك على اللـه عز وجل في كل يوم خمس مرات ( أي دعونا عليك مع كل صلاة دعاء لا يرد لأنه مع إخلاص ) .

وأنت حدثتنا عن أبيك عن جدك أن رسول اللـه (ص) قال أربع دعوات لا يحجبن عن اللـه تعالى ، دعاء الوالد لولده والأخ لأخيه بظهر الغيب والمخلص .

قال الربيع : فما استتم الكلام حتى أتت رسل المنصور تقفوا اثري وتعلم خبري ، فرجعت فأخبرته بما كان فبكى ، ثم قال : إرجع إليه وقل له الأمر في لقائك إليك والجلوس عنا ، وأما النسوة اللاّتي ذكرتهن فعليهن السلام فقد أمّن اللـه روعتهن وجلا همهن .

قال : فرجعت إليه فأخبرته بما قال المنصور ، فقال : قل له وصلت رحماً وجزيت خيراً ثم اغرورقت عيناه حتى قطر من الدموع في حجره قطرات .

2 - وعن محمد بن عبد اللـه الاسكندري كان من ندماء المنصور وخواصه ، أنه قال : دخلت على المنصور يوماً فرأيته مغتماً وهو يتنفس نفساً بارداً فقلت ما هذه الفكرة يا أمير المؤمنين !

فقال لي : يا محمد لقد هلك من أولاد فاطمة مائة أو يزيدون وقد بقي سيدهم وإمامهم .

فقلت له : من ذلك ؟

قال : جعفر بن محمد الصادق .

فقلت يا أمير المؤمنين : إنه رجل قد انَحَلته العبادة واشتغل باللـه عن طلب الملك والخلافة .

فقال : يا محمد لقد علمت أنك تقول به وبإمامته ولكن الملك عقيم وقد آليت على نفسي الاَّ أمسي عشيتي هذه أو أفرغ منه .

قال محمد : واللـه لقد ضاقت عليَّ الأرض برحبها ، ثم دعا سيافاً وقال له : إذا أنا أحضرت أبا عبد اللـه الصادق وشغلته بالحديث ووضعت قلنسوتي عن رأسي فهي العلامة بيني وبينك فاضرب عنقه .

ثم احضر أبا عبد اللـه  في تلك الساعة ولحقته في الدار وهو يحرك شفتيه فلم أدر ما الذي قرأ ، فرأيت القصر يموج كأنه سفينة في لجج البحار ورأيت أبا جعفر المنصور وهو يمشي بين يديه حافي القدمين مكشوف الرأس قد اصطكت أسنانه وارتعدت فرائصه يحمر ساعة ويصفر أخرى ، واخذ بعضد أبي عبد اللـه وأجلسه على سرير ملكه وجثا بين يديه كما يجثوا العبد بين يدي مولاه ، ثم قال : يا أبن رسول اللـه (ص) ما الذي جاء بك في هذه الساعة ؟

قال : جئتك طاعة لله ولرسوله ولأمير المؤمنين أدام اللـه عزه .

قال : ما دعوتك والغلط من الرسول . ثم قال : سل حاجتك ؟

فقال : أسألك الا تدعوني لغير شغل .

قال : لك ذلك وغير ذلك . ثم انصرف أبو عبد اللـه سريعاً وحمد اللـه عزّ وجلّ كثيراً .

ودعا أبو جعفر المنصور بالدواويج - أي الألحفة والأغطية - ونام ولم ينتبه إلاّ في نصف الليل ، فلما انتبه كنت عند رأسه فترة ذلك ، وقال : لا تخرج حتى أقضي ما فاتني من صلاتي فأحدثك بحديث ، فلما قضى صلاته أقبل على محمد وحدَّثه بما شاهده من الأهوال التي أفزعته عند مجيء الصادق  ، وكان ذلك سبباً لانصرافه عن قتله وداعياً لاحترامه والإحسان إليه .

يقول محمد قلت له : ليس هذا بعجيب - يا أمير المؤمنين - فإن أبا عبد اللـه وارث علم النبي (ص) وجده أمير المؤمنين  ، وعنده من الأسماء وسائر الدعوات التي لو قرأها على الليل لأنار ولو قرأها على النهار لأظلم ولو قرأها على الأمواج في البحور لسكنت .

وهكذا استمر المنصور يدعو الإمام مرة بعد أخرى حتى دس إليه السم فقتله .

ولم تقتصر مواقف الإمام المشرفة في التي وقفها مع المنصور فقط ، بل ، إن له مواقف مشابهة مع ولاة المنصور من ذلك ما يلي :

1 - ذات مرة كان الصادق عند زياد بن عبد اللـه فقال الرجل : يابني فاطمة ما فضلكم على النــاس ؟ ( فسكت كل من كان في المجلس من الفاطميين خوفاً على أنفسهم من قتل الرجل ) .

فقال الإمام : “ إن من فضْلنا على الناس أنا لا نحب أن نكون من أحد سوانا ، وليس أحد من الناس لا يحب أن يكون منا “ .

2 - وكان داود بن علي والياً على المدينـة فأمـر مديـر الشرطة بإعدام ( معلى بن خنيس ) وهو من زعماء الشيعة البارزين ومن أصحاب الإمام الصادق  المفوهين ، فنفذ مدير الشرطة أمر الرئيس .

فلما قتل ( معلى ) جاء الإمام وقد اشتد غضبه على الحكم إلى الوالي يقول له : قتلت مولاي وأخذت مالي !! أما علمت أن الرجل ينام على الثكل ولا ينام على الحرب .

فاعتذر الوالي بانه لم يكن القاتل المباشر .

فذهب إلى مدير الشرطة فاعترف بالجرم فأمر بضرب عنقه فقتله جزاءً على قتله وقوراً .

ثقافتــه الواسعــة :

لا نستطيع أن نحدد من ثقافة الإمام - أيّ إمام - إذا اعتقدنا بأن ثقافته صورة واضحة عن اتصاله باللـه تعالى ، حيث أنه يحدو بنا إلى الإعتقاد بأن اللـه يوحي إليه إلهاماً . وكذلك لا نستطيع أن نجد وصفاً شاملاً لثقافته إذا عرفنا بأن المفاهيم العادية التي نعيشها في حياة الإنسان لا تضبط كل ثقافته وكل معرفته ، لأن للإمام وللنبي ولبعض الملهمين من الصالحين قوة يهبهم إياها اللـه القدير ، تلتقط المعلومات عن الكون والحياة كما تلتقط آلة التصوير أو أفلام السينما صور الموجات ، وكما تلتقط العين وأعصاب الأذن جمال الحياة وصوت الأحياء ، فيعرف شيئاً جميلاً وفرداً متكلماً .

وأعود فأقول : ليست ثقافة الإمام الصادق  محـدودة بما قال أو بما حفظ عنه من آثار في مختلف العلوم ، بل أكبر من هذا سعة وأكثر رحابة وأبعد أفقاً ، لأن ثقافته اتصلت بالموجودات رأساً كما تتصل السحابة بالبحر ، والضياء بالشمس والعطر بالورد وحيث كان يستوحي أفكاره واتجاهاته ومعارفه من اللـه خالق البحر والشمس ، ومفتح الورد . فالوحي من اللـه فالنبي فالإمام ، وكذلك الإلهام من اللـه فالإمام .

إن الحقيقة التي عبر عنها فم الإمام هي الحقيقة التي عرفها قلبه ، وحواها فكره ، وأدركتها روحه ، والتي نفخها بارئ الحقيقة في روح الإمام  .

وبعد كل هذا فإن هناك جانباً واحداً يهمنا من ثقافة إمامنا الصادق وهو أنها كانت معجزته كما كان معجزة النبي (ص) قرآنه ، وإنه يعلم كل شيء يحتاج إليه الإنسان ، وهذا الجانب وحده هو الذي حدا بالجعفرية أن يتبعوا مدرسته الفكرية في كل عصر .

وهنا يجدر بنا أن ننقل اعترافات بعض الزعماء والمفكرين بمدى سعة آفاق الإمام العلمية ، ومدى رحابة مكانته الثقافية ، التي جعلت من أعدائه منابر المدح ومنصات الثناء .

قال فيه أبو حنيفة : “ ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد “ و “ جعفر بن محمد أفقه من رأيت “ .

وقال فيه الشهرستاني : “ وهو ذو علم غزير في الدين وأدب كامل في الحكمة “ .

وقــــال فيه ابن حجر الهيثمي : “ جعفر بن محمد الصادق نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر صيته في جميع البلدان ، وروى عنه الأئمة الكبار “ .

وقال فيه السيد أمير علي صاحب كتاب مختصر تاريخ العرب والتمدن الإسلامي :

“ لا يفوتنا أن نشير إلى ان الذي تزّعم تلك الحركة هو حفيد علي بن أبي طالب المسمى بالإمام جعفر والملقب بـ ( الصادق ) ، وهو رجل رحب أفق التفكير ، بعيد أغوار العقل ، ملم كل الإلمام بعلوم عصره ، ويعتبر في الواقع أنه أول من أسس المدارس الفلسفية في الإسلام . ولم يكن يحضر حلقته العلمية أولئك الذين أصبحوا مؤسسي المذاهب الفقهية فحسب ، بل كان يحضرها طلاب الفلسفة المتفلسفون من الأنحاء القاصية .

وقال العلاّمة هولميادر الكاتب الإنكليزي :

“ إن جابر هو تلميذ جعفر الصادق وصديقه ، وقد وجد في إمامه الفذ سنداً ومعيناً وراشداً أميناً وموجهاً لا يستغني عنه ، وقد سعى جابر إلى أن يحرر الكيمياء بإرشاد أستاذه من أساطير الأولين التي علقت بها من الإسكندرية ، فنجح في هذا السبيل إلى حد بعيـد ، مـن أجل ذلك يجـب أن يقـرن اسم جابـر مع أساطيـن هذا الفن في العالـم أمثال ( بويله) و ( فوازيه ) وغيرهما من الأعلام “

وهناك مئات بل ألوف من الإعترافات التي أبداها كل من الكتَّاب المسلمين وغيرهم من المحدثين والقدماء ، وبصورة خاصة من معاصري الإمام حتى ملأ العالم فضله وعلمه الغزير وثقافته الوسيعة البالغة .

 

جــوده وكرمــه :

1 - قال سعيد بن بيان : مرَّ بنا المفضل بن عمر - أنا وأخت لي - ونحن نتشاجر في ميراث فوقف علينا ساعة ثم قال لنا : تعالوا إلى المنزل ، فأتيناه فأصلح بيننا بأربعمائة درهم دفعها إلينا من عنده حتى إذا استوثق كل واحد منا صاحبه قال المفضل : أما إنها ليست من مالي ولكن أبا عبد اللـه الصادق أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا أن أصلح وأفتد بها من ماله - فهذا مال أبي عبد اللـه - .

2 - وجاء إليه رجل وقال : لقد سمعت أنك تفعل في عين زياد - وكان ذلك اسم قرية له - شيئاً أحب أن أسمعه منك .

فقال : “ نعم كنت آمر إذا أدركت الثمرة أن يثلم ( أي يشق ويهدم ) في حيطانها الثلم ليدخل الناس ويأكلوا . وكنت آمر أن يوضع بنيات يقعد على كل بنية عشرة ، كلما اكل عشرة جاء عشرة أخرى يلقي لكل منهم مدّ من رطب ، وكنت آمر لجيران الضيعة كلهم الشيخ والعجوز والمريض والصبي والمرأة ومن لا يقدر أن يجيء فيكال لكل إنسان مدّاً فإذا أوفيت القوام والوكلاء آجرتهم وأحمل الباقي إلى المدينة ففرقت في أهل البيوت والمستحقين على قدر استحقاقهم ، وحصل لي بعد ذلك أربعمائة دينار وكان غلتها أربعة آلاف دينار “

يعني ذلك أنه كان يصرف تسعة أعشار تلك الضيعة في الوجوه الخيرية بينما يجعل لنفسه عشراً واحداً منها فقط .

3 - وينقل هشام بن سالم أحد أصحاب الإمام البارزين فيقول : كان أبو عبد اللـه إذا اعتم - أي أظلم - وذهب من الليل شطره أخذ خناً فيه لحم وخبز ودراهم فحمله على عنقه ثم ذهب إلى أهل الحاجة من أهل المدينة فقسمه فيهم ولا يعرفونه .

فلما مضى “ وتوفي “ أبو عبد اللـه فقدوا ذلك ، فعلموا أنه كان أبا عبد اللـه

4 - يحدّث الهياج البسطامي عن كرم الإمـام فيقول : كـــــان أبو عبد اللـه ينفق حتى لا يبقى شـــــيء لعيالـــــه

5 - وقال بوابه المصادف : كنت مع أبي عبد اللـه بين مكة والمدينة فمررنا على رجل في أصل شجرة وقد ألقى بنفسه فقال  مل بنا إلى هذا الرجل ( أي إعدل الطريق إلى جانبه ) فإني أخاف أن يكون قد أصابـــه العطش ، فملنا إليه فإذا هو رجل من النصارى طويل الشعر ، فسأله الإمام : عطشان أنت ؟ فقال : نعم فقال الإمام : إنزل يا مصادف فاسقه ، فنزلت وسقيته ثم ركب وسرنا ، فقلت له : هذا نصراني أفتصرف على نصراني ؟

فقال : نعم إذا كانوا بمثل هذه الحالة

6 - كان مريضاً ذلك النهار الذي دخل عليه الشاعر الملهم اشجع السلمي فجلس إليه يسأل عن أحواله فقال له الإمام  تعدّ عن العلة واذكر ما جئت له .

فقال الشاعر :

ألبســك اللــه منه عـافيـــــة في * نومــك المعــــتــري وفـي أرقــك

يخرج مـن جسمـك السقام كمــا * أخــــــرج ذل الســؤال مـن عنقـك

فقال الإمام : يا غلام أي شيء عندك ؟

قال : أربعمائة . قال : أعطها لأشجع .

7 - وبعث إلى ابن عم له من بني هاشم صرَّة بيد أبي جعفر الخشعمي - وكان من وراته الموثوقين - فأمره بأن يكتمه عنه . فلما جاء إلى الهاشمي وأعطاه ، قال : جزاه اللـه خيراً ، ما يزال كل حين يبعث بها فنعيش به إلى عام قابل ، ولكني لا يصلني جعفر بدرهم مع كثرة ماله .

وحينما حضرته الوفاة أمر بسبعين ديناراً لابن عمه الحسن بن علي الأفطس ، فقيل له : أتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة ليقتلك ؟

فقال عليه السلام : ويحكم أما تقرأون : { وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللـه بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ } (الرعد /20)

“ إن اللـه خلق الجنة فطيَّبها وطيَّب ريحها ليوجد من مسيرة ألف عام ، ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم “

 

حلمــه ورأفتــه :

1 - كان (عليه السلام ) إذا بلغه من أحد نيلاً منه أو وقيعة فيه قام إلى مصلاّه فأكثر من ركوعه وسجوده وبالغ في ابتهاله وضراعته وهو يسأل اللـه أن يغفر لمن ظلمه بالسب ونال منه .

وإن كان من أقربائه الأدنين فكان يوصله بمال ويزيد في بره قائلاً : إني لأحب أن يعلم اللـه أني أذللت رقبتي في رحمي ، وأني لأبادر أهل بيتي أصلهم قبل أن يستغنوا عني .

لله سيدي ما أعظمك واحلمك .. وماأكبرك نفساً وأرحبك صدراً وأحسنك خلقاً .

2 - وبعث غلامه إلى حاجة فأبطأ ، فذهب على أثره يتفقده فوجده نائماً على بعض الأرصفة ، فجاء حتى جلس بجانبه يروح له فلما انتبه قال له : يا فلان ما ذلك لك تنام الليل والنهار ، لك الليل ولنا منك النهار.

إذا أضفنا هذه القصة الصغيرة إلى الوضع الإجتماعي ذلك اليوم الذي كان الرقيق يعاملون معاملة البهائم فيشبعونهم ضرباً بمجرد أن تبدر منهم بادرة ، نعرف مدى نضوج الإنسانية الرفيعة في فؤاده الكبير .

2 - بعث غلاماً له أعجمياً في حاجة فلما رجع بالجواب لم يستطع أن يفصح به العبد لأنه لم يكن يجيد العربية تماماً ، فبدلاً من أن ينهره ويطرده - شأن الناس ذلك اليوم - سكن قلبه وهدأ اضطرابه وقلقه حيث قال له : لإن كنت عيّ اللسان فما أنت بعيّ القلب ثم أضاف :

“ إن الحياء والعفاف والعيّ - عيّ اللسان لا عيّ القلب - من الإيمان “

3 - ونهى أهل بيته عن الرقي إلى السطح عبر سلّم مشيراً لهم بأفضلية الدرج المألوف للصعود ، فدخل ذات مرة الدار ورأى إحدى الجواري التي كانت تربي ولداً له تتسلق السلَّم والطفل بيدها فلما بصرت الجارية بالإمام خافت وارتعدت فرائصها وسقط الصبي من يدها ومات .

فخرج  إلى مجلسه متغيراً لونه ، فلما سئل عن ذلك قال : ما تغير لوني لموت الصبي ، وإنما تغير لوني لما أدخلت على الجارية من الرعب ، في حين أن الإمام قال لها حينما شاهدها خائفة مذعورة : أنت حرة لوجه اللـه ، أنت حرة لوجه اللـه

4 - كانت الحجـــاج تتقاطر على مكة والمدينة وكان بعضهم يفضل المبيت فــــي مسجد النبي (ص) بــــدلاً من أن يستأجروا مقابل بعض الدراهم ، فكان أحدهم نائماً بالمسجد والإمام يصلي بجانبه فلما انتبه لم ير هميانه الذي حفظ فيه نقوده ، فتعلق بالإمام - ولم يكن يعرفه - قائلاً له أنت سرقت همياني .

قال له الإمام : كم كان عندك من النقود ؟

قال : ألف دينار . فحمله إلى منزله وأعطاه ألف دينار فذهب الرجل ثم وجد هميانه وفيه ألف دينار فعاد بالمال إلى الإمام متعذراً ، فأبى قبوله قائلا : شيء خرج من يدي لا يعود إليّ .

فخرج الرجل يسأل الناس عن الإمام فقيل هذا جعفر بن محمد فقال : لا جرم هذا فعال مثله

 

صبــره وأمانتــه :

كان للإمام ولداً يدعى ( إسماعيل ) وكان أكبر أولاده ، فلما شبَّ كان جمَّاع الفضائل والمكارم حتى حسب أنه خليفة أبيه والإمام من بعده ، ولما اكتمل نبوغه صرعته المنية ، فلم يخرج لوفاته بل دعا أصحابه إلى داره لمراسم الدفن وأتى إليهم بأفخر الأطعمة وحثهم على الأكل الهنيء ، فسألوه عن حزنه على الفقيد الفتي الذي اختطفه الموت في ربيعه ولما يكمل من الحياة نصيبه ، قال لهم : ومالي لا أكون كما ترون في خير أصدق الصادقين - أي الرسول (ص) - : { إنك ميت وإنهم ميتون }

2 - وكان له ولد آخر كان في بعض طرقات المدينة يمشي أمامه غضاً طرياً ، اعترضته غصة في حلقه فشرق بها ومات أمامه ، فبكى  ولم يجزع بل اكتفى بقوله مخاطباً لجثمان ولده الفقيد :

“ لئن أخذت لقد أبقيت ، ولئن أبليت لقد عافيت “ .

ثم حمله إلى النساء فصرخن فأقسم عليهن ألا يصرخن .

ثم أخرجه إلى المدفن وهو يقول : “ سبحان من يقتل أولادنا ولا نزداد له إلاّ حبّاً “ .

وقال بعد الدفن : “ إنا قوم نسأل اللـه ما نحب فيمن نحب فيعطينا ، فإذا أحب ما نكره فيمن نحب رضينا “ .

 

نظرته الإنسانيــة :

إن نظرة الإمام الصادق الإنسانية تنبثق من نظرة الإسلام إليها في شتى صيغها ومفاهيمها ، وإني لا أريد أن أورد بعض المثل في ذلك من سيرة الإمام ، بينما أجعل البحث والتعليق لفرص أخرى إن شاء اللـه تعالى ، ذلك لكي نكشف عن مدى تفاني الإمام في حب الإنسانية وصراعاتها وتقدير حقوقها حتى ليجعل الصخر ينحني والنجم والشجر يسجدان إجلالاً وإكراماً لهذه النظرة العظيمة .

1 - أعطى بوابه ومـولاه - مصـادف - ألف دينار وقال له تجهز حتى نخرج إلى مصر ( أي في رحلة تجارية ) فإن عيالي قد كثروا ، فتجهز وخرج مع التجار إلى مصر فلما دنوا منها استقبلتهم قافلة خارجة منها فسألوهم عن المتاع الذي معهم ما حاله في المدينة ؟ فأخبرهم أن ليس بمصر منه شيء فتحالفوا وتعاقدوا على أن لا ينقصوا من أرباح دينار ديناراً - يعني يجعلون الربح مضاعفاً - فلما قبضوا أموالهـــم انصرفوا إلى المدينة .

فدخل مصادف على أبي عبد اللـه  ومعه كيسان في كل واحد ألف دينار وقال : جعلت فداك هذا رأس المال وهذا الآخر ربح فقال  : إن هذا الربح كثير ولكن ما صنعتم في المتاع ؟ فحدَّثه مصادف بقصة تجارتهم .

فقال :

“ سبحان اللـه تحلفون على قوم مسلمين ألا تبيعوهم إلاّ بربح الدينار ديناراً ؟ ثم أخذ أحد الكيسين فقال هذا رأس مالي ولا حاجة لنا في الربح . ثم قال يا مصادف مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال “

2 - كان للإمام صديق لا يكاد يفارقه ، فغضب يوماً على عبده وسبه قائلاً : أين كنت يا ابن الفاعلة !! فلما سمع أبو عبد اللـه دفع يده فصك بها جبهة نفسه . ثم قال : سبحان اللـه تقذف أمه ، قد كنت أرى لك ورعاً .

فقال الرجل : جعلت فداك إن أمه أمة مشركة ، فقال : أما علمت أن لكل أمة نكاحاً .

3 - انقطع شسع نعله وهو يسير مع بعض أصحابه يشيعون جنازة ، فجاء رجل بشسعه ليناوله ، فقال: أمسك عليك شسعك فإن صاحب المصيبة أولى بالصبر عليها .

4 - قال بعض أصحابه : أصاب أهل المدينة غلاء وقحط حتى أقبل الرجل الموسر يخلط الحنطة بالشعير ويأكله ، وكان عند أبي عبد اللـه طعام جيد - فيه كفاية - قد اشتراه أول السنة فقال لبعض مواليه : إشتر لنا شعيراً واخلط بهذا الطعام ، أو بعه فإنا نكره أن نأكل جيدا وياكل الناس رديئاً .

وقال الآخر دخلنا على أبي عبد اللـه في حائط - أي بستان - له وبيده مسحاة يفتح بها الباب وعليه قميص ، وكان يقول إني لأعمل في بعض ضياعي وإن لي من يكفيني ليعلم اللـه أني أطلب الرزق الحلال .

 عبادتــه وطاعتــه :

كل من وصف جعفر بن محمد الصادق بالعمل شفعه بالزهد والطاعة وإليك بعض كلماتهم في ذلك :

قال مالك - إمام المذهب - : “ كان جعفـر لا يخلو مـن إحـدى ثلاث خصـال ، إما مصلٍّ وإما صائم وإما يقرأ القرآن “

وقال : “ ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادةً وورعا

وقــــال الوزير أبو الفتح الأربلـــــي : “ وقف نفسه الشريفة علــــى العبادة وحثَّها على الطاعة والزهادة واشتغــــل

بأوراده وتهجده وصلاته وتعبده “ .

ويـروي بعض معاصـريه : رأيت أبا عبـد اللـه ساجداً في مسجـد النبي (ص) فجلست حتى أطلت ، ثم قلت : لأسبحنّ ما دام ساجداً فقلت : سبحان ربي وبحمده استغفر ربي وأتوب إليه ثلاثمائة ونيفاً وستين مرة فرفع رأسه

“ إنه كان يلبس الجبة الغليظة القصيرة من الصوف على جسده ، والحلة من الخز على ثيابه ويقول : نلبس الجبة لنا والخز لكم ويرى عليه قميص غليظ خشن تحت ثيابه وفوقه جبَّة صوف وفوقها قميص غليظ “ .

“ ويطعم ضيوفه اللحم ينتقيه بيده وهو ياكل الخل والزيت ويقول : “ إن هذا طعامنا طعام الأنبياء “

 

مــن بلاغتـــه :

لقد زخرت الكتب الدينية بأحاديث بليغة عن الإمام الصادق  ولك أيها القارئ بعض روائعه تاركين من يريد أكثر من ذلك يراجع كتاب “ أشعة من بلاغة الإمام الصادق  “ للعلاّمة الفقيه الشيخ عبد الرسول الواعظي .

“ أوصى إلى المنصور الخليفة المعاصر له فقال : عليك بالحلم فإنه ركن العلم ، واملك نفسك عند أسباب القدرة ، فإن تفعل ما تقدر عليه كنت كمن شفي غيظاً أو تداوى حقداً أو يجد ذكراً بالصولة ، واعلم بانك إن عاقبت مستحقاً لم تكن غاية ما توصف به إلاّ العدل ، والحال التي توجب الشكر أفضل من الحال التي توجب الصبر “.

فقال المنصور : “ وعظت فأحسنت وقلت فأوجزت “ .

ومن وصية له إلى ولده الإمام الكاظم :

“ يا بني إفعل الخير إلى كل من طلبه منك . فإن كان من أهله فقد أصبت موضعه ، وإن لم يكن له بأهل كنت أهله ، وإن شتمك رجل عن يمينك ثم تحول إلى يسارك واعتذر إليك فاقبل عذره “ .

قال سفيان الثوري لقيت الصادق ابن الصادق جعفر بن محمد فقلت : يابن رسول اللـه أوصني .

فقال : يا سفيان لا مروءة لكذوب ، ولا أخ لملوك ، ولا راحة لحسود ، ولا سؤدد لسيّئ الخلق .

فقال : يابن رسول اللـه زدني .

فقال لي : يا سفيان ثق باللـه تكن مؤمناً ، وارض بما قسم اللـه لك تكن غنياً ، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً ، ولا تصحب الفاجر معك يعلمك من فجور ، وشاور في أمرك الذين يخشون اللـه عز وجل.

 

 
قبل كل شيء
حياة الهادى البشير
 أهل البيت عليهم السلام
التاريخ الإسلامي
الخلفاء الراشدين
ابو بكر الصديق
عمر بن الخطاب
عثمان بن عفان
على بن أبى طالب
جعفر الصادق
الأئمة الأربعة
أركان الإسلام
مسجد الرسول صلى الله عليه و سلم
دعوات قرآنية





















 
 
Ben Azzouz  

جميع حقوق النشر محفوظة© لعائلة بن عزوز